صمد الفلسطيني ثلاثين يوماً بدون عتاد، قبل أن يحمل من تبقى حياً من تبقى من عياله وأسرته ويعيد تغريبة جدّه وأبيه. كلّا.. صمد الفلسطيني 75 عاماً وثلاثين يوماً.
يحمل الفلسطينيون المنكوبون في غزة فوق طاقة أي بشر قد يكون في موضعهم، يُجالسهم الموت ولا يأخذهم، ينتزع من أشجارهم أوراقاً ويعرّي غصوناً، لكنّه لا يُفصح إن كان عائداً إليهم. ينشط الموت وجنوده في قطاع غزة، يعملون أوقاتاً إضافية ليستوعبوا وحشية الآلة الإسرائيلية وهي تطيح بأرواحهم من كل صوب. يُطالب الفلسطيني بأن يظلّ صامداً، وكيف لمن تهشم أبناؤه تحت الأنقاض أن يصمد؟ وكيف لمن يجوع عياله ولا يجد لقمة أن يصبر؟ وكيف لا ينهار من يحمل جثة أبيه في سيارته ويطوف بها بحثاً عن قبر؟
الروح غالية، والحياة عزيزة، لكن الفلسطيني الذي مات جيرانه وأقرانه يخجل من التصريح بهذا، ماذا عساه يقول؟ وما عساه يُقال عنه؟ متشبّث بالحياة؟! لقد كان قدر الفلسطيني منذ 1948 أن يُهجّر أو يموت، حتى قالت الأمهات الفلسطينيات يوماً “إننا ننجبهم ليستشهدوا”.. هذا ضدّ كل إيمان، وُجدنا على هذه الأرض لنحيا لا لنموت، إن كان للفلسطيني رفاهية الاختيار لاختار الحياة بلا تردد، بلى.. يحب الفلسطينيّ الحياة ويبحث عنها، شاهدوه في الخلوات بين القصف والقصف، يغنّي ويركض ويضحك، لا نعرف الآن إن كانت تلك ضحكة الناجي، أم ضحكة الباحث عن حياة، أم ضحكة من مات في قلبه الخوف. يريد الغزّاويّ أن يعيش، فلا تثقلوا بالشجاعة قلبَ من يترصّده الموت، ولا تحمّلوه فوق القصف والذعر أحمالاً.
“رابطوا.. لا تخرجوا من بيتكم.. تشبثوا بشمال غزة.. قاوموا.. تصدّوا للعدو” يُطلق هذه الصيحات من هو آمنٌ في بيته، ينعم بين عياله بالدفء، ويناقش زوجته في أمر العشاء، فيما يخلط “المرابطون” المتشبّثون بوطنهم ماءَ البحر بالسكّر كي لا يموتوا من العطش، يخزّنون ما تيسر ثمنه وزاد وزنه من المؤن المعلبة حتى يسدّ أفواه أبنائه، وإخوته، وجيرانه، ومن نزحوا وسكنوا في بيته، في كل بيت ثلاثون فرداً، خمسون، مائة وعشرون في أحد البيوت، يتكدّسون فيها مثلما يُكدّس السردين في المعلّبات القليلة التي يحصلون عليها. لم يعد ثمة خبز، قُصفت المخابز وارتقى الخبّازون، لم يعد ثمة أدوية فالمستشفيات سُوّيت بالأرض ورحل الأطباء والصيادلة إلى السماء، لم يعد ثمة مكان آمن في غزة، ولا لقمة، ولا شربة، ولا سقف، لم يعد ثمّة شيء في غزة سوى الأرض من تحتها النار ومن فوقها النار، فكيف نثقل الغزّاوي بمطالب الصمود؟
ماذا سيكتب التاريخ ونحن شهود عليه؟ هل نزحوا بعد أن تسلّموا ثمن أراضيهم وبيوتهم؟ هل رفعوا الرايات البِْيض ورحلوا خافضي الرؤوس؟ هل تواطؤوا مع آلة الاحتلال على صفقة ليخرجوا آمنين؟ وماذا سيقول عنهم المنظّرون الذين يقبعون في الرخاء ويحرّضونهم على الموت؟ الذي يتذمر لو اقترب شحن هاتفه من النفاد فيما الكهرباء مقطوعة عن مستشفيات غزة ولا وقود كافٍ لتشغيل مولّدات الطاقة الاحتياطية. وماذا سيقول الكاذبون المنافقون، الذين يوهمونهم بانتصار لم يحدث، وانتظار “قد لا يطول وقد يطول.. وتلك أخرى” كما قال الشاعر؟ هل سيشمت بهم كارهوهم ومبغضوهم؟ وهل سيتسابق المحلّلون السياسيون في القنوات على الإفتاء بمرحلة ما بعد الحرب والنزوح الجديد والتهجير الجديد والنقب وسيناء والأونروا؟ وهل يحيي الغزّاويّ ذكرى نكبتين كل عام؟ 15 مايو و 7 أكتوبر؟ وما سيفعل بالمفاتيح التي ورثها عن الرعيل السابق من أسرته؟ وهل يضم إليها مفتاح داره الغزّية أم يرميها جميعاً إلى البحر؟
يريد كل من في غزة أن يعيش.. فلا تقتلوا الغزّاوي مرّتين.