لقائي مع أشرف فقيه، حول روايته “المخوزق”..

لقائي مع أشرف فقيه، حول روايته “المخوزق”..

بين المقالة، والتدوينة، والقصة القصيرة، والحضور في الإعلام الجديد، كنا ننتظر من كاتبنا الشاب (أشرف فقيه) بعد ثلاث مجموعات من قصص الخيال العلمي، أن يسجّل ظهوره الروائي الأول في ذات المساحة، لكنه عوضا عن ذلك انشغل بإشعال خياله، وانهمك باحثاً في جذور الحكاية التاريخية، ليقدّم لنا روايته المفاجئة “المخوزق“. أقول إنها مفاجِئة، لأنه أقدم على مساحة تختلف عمّا عُرف به، ولأنه وضع نفسه مباشرة في مواجهة مع أحد أهم الأعمال الكلاسيكية “دراكولا”، وجازف بطرح الرواية إلكترونياً في نسختها الأولى قبل أن يصدرها ورقية، في سوقٍ تعاني من قلة القرّاء التقليديين، ناهيك عمَّن يميلون للقراءة الإلكترونية. في هذا اللقاء، نحاور أشرف عن روايته، وظروف كتابتها، وعن قلق الكتابة، ومشاريعها..

* عملٌ أول في وسطٍ روائي يشكل هويته السردية، مشغول بالفضائحيات وتناول المسكوت عنه، الاستثناءات فيه قليلة، والسفر عبر التاريخ وإعادة الحبكة لموضوعٍ مطروق قد يسقطك بفخ المقارنة مع نموذجه الغربي.

هذه المقارنة مطلوبة وهي في صميم فكرة الرواية. لأن المقارنة، من جهة، ستكشف لك كم هو هذا العمل مختلف عن الأصل، ومن جهة أخرى ستكشف أن ذاك الأصل المزعوم ليس حقيقياً! حين تلمّست تفاصيل الجذر العثماني لقصة دراكولا لأول مرة، هبطتْ عليّ الفكرة دفعة واحدة كنداء الواجب. لا يهم الأساس الذي حفره (برام ستوكر) ولا يهم البناء الذي شادته هوليوود فوقه. إن دراكولا في النهاية هو رمز لأسطورة شرقية بقدر ما كانه تيمورلنك أو هولاكو. لكن ارتباط تلك الأسطورة بالتاريخ العثماني، وبشخص محمد الفاتح بكل تغلغله في الوجدان الجمعي للجيوتاريخ يحتّم علينا “نحن” أن ننبش في القصة ونعيد قراءتها ثم حكايتها بلغتنا ومفرداتنا. قد يكون الخروج من ظل برام ستوكر صعباً جداً، لكني حاولت جاداً أن أقدم قراءة واقعية نائية عن ومتقاطعة مع روايته التي تستعير من الواقع لتوغل في الخرافية والماورائية.

* مما يعيب بعض الروايات حشوُها بأكثر مما تحتمل، ”المخوزق” كانت تحتمل مزيداً من سخاء السرد.

هذه ملاحظة تكررت عليّ، أي أن الرواية كانت تحتمل المزيد، وسأعتبرها درساً في القادم من الأعمال. سأكشف لك شيئاً: المخوزق لم تكن جزءاً من مشروعي الروائي الأصلي. بل إنها قد اعترضته وحوّلت مساره. لنقل أن تعاملت مع المخوزق كـ “بروفة” ظهور لأشرف فقيه الروائي.. مغامرة عابرة كان تجسدها مفاجأة لي أنا قبل سواي. عليه فلك أن تتخيل دهشتي حين وجدت الرواية تأخذ بي لنهايتها. لقد كانت “تجربة” ابتدأت وانتهت خلال بضعة أشهر تخللتها كتابة ورقة علمية! ونتائج تلك التجربة مبشرة جداً بالنسبة لي حتى الآن. لم أنوِ منذ البدء أن أقدم عملاً ملحمياً ولا أن أواجه القارئ بوجبة روائية ثقيلة. كانت للمخوزق غاية أعتقد أنها أدتها.. أما التكامل السردي فمجدٌ أرجو أن أحوزه يوماً.

* الاعتناء بتفاصيل النص منحنا رؤية دقيقة وملهمة -قصة مقتل الشيخ مثلا- اختارتها عين تمرّست السينما، ما هو الأثر السينمائي الذي تدرك تأثيره عليك، وقمت بالتالي بتوظيفه جيدا في عملك؟

من المستحيل أن تكتب في التاريخ بدون أن تتكيء على ذاكرتك البصرية. ومع المخوزق بالذات كان للمشهد حضور يوازي حضور البطل والحدث. لا أستطيع أن أحدد أثراً سينمائياً بعينه. كما لا يسعني أن أتبرأ من القراءات القديمة التي ألهمتني كثيراً. أجزاء من قصة مقتل الشيخ مثلاً كُتبت بوحي من الفولكلور الصيني. ولعلك لاحظت أني لم أنجح في التملص من سطوة أسلوب (أورهان باموق) في بعض ما كتبتُ.

* السرد متماسك، والبناء المعرفي في النص يشير إلى بحث عميق وجاد أثناء الكتابة، أستميحك العذر أن أكون حاداً وأقول إن الحبكة أفلتت منك -قليلا- بعد ظهور الأخوين في القلعة.

لعل ذلك حصل. واعترف أن الرواية قد قادتني هي لنهايتها عوض أن يحصل العكس. لكني في معرض الدفاع أقول بأني تقصدتُ أقصى درجات الواقعية الممكنة في خط سير الأحداث. وبقدر ما الرواية مبنية على ثيمة غرائبية، فإني لم أنفك أسأل نفسي عند كل فصل ومشهد: كيف كانت الحياة ستعامل هذه الشخصية أو تلك؟ وإذا كنت أنت قد أشدت بالنفَس السينمائي للنص، فإني بالمقابل قد تعمدتُ أن أتجنب النهايات السينمائية مكتفياً بالتفاصيل المريعة للواقع الذي بنيت عليه حبكتي.

* بناء شخصية ”أورهان” غريب للغاية: ذكي لا يمكن الإعجاب به، ضعيف لا تجوز عليه الشفقة، متغطرس -في البداية- لا تكرهه، شغوف بالعلم لكنه لا يطرح الأسئلة المناسبة دائماً.

أليست هذه، هي الأخرى، شخصية من رحم الحياة الحقيقية؟ أورهان هو أنا وأنت.. إنه الصورة المثالية التي نراها حين نطالع وجوهنا بالمرآة. وهو أيضاً الانعكاس الأخرق لتلك الصورة والذي ينوء بحمل الهزائم والخيبات. إننا في كل يوم نراوح بذواتنا بين ذينك التصورين. وقد قررتُ أنا أن اتبناهما معاً عبر النصّ.

أورهان ليس بطلاً سينمائياً بقدر ماهو شخصية قد تقابلها في الشارع، إنما اخترت أنا أن أزرعه في زمن السلطان محمد الفاتح. إنه العارف الجاهل، المنتصر المغلوب. إنه كلما ظن أنه قد أمسك بصورته التي في مرآة عقله، خاتلته الحياة بقسوتها ليعيد الكرّة بدون أن يتعلم الدرس.

* ثمة حيلة مجهولة استخدمها أشرف في كتابة ”المخوزق”، تشعر أثناء القراءة أن ثمة ما هو خفيٌّ ومتعمّد، لكن أحداً لا يقتنصه بسهولة، يحتاج قارئاً ذكياً يتنبّه لوجود الحيلة، وقارئاً أذكى لمعرفتها!

إن الروائي الذي يزعم أن كلماته تفي للتعبير عن فكرته إما أن يكون فذّاً.. أو مخدوعاً بنفسه! الكتابة مغامرة محفوفة بالفشل. وأقصى ما أتمناه أن أنجح في نقل “روح” الفكرة كي يستشعرها كل قارئ وفقاً لفهمه وشفافيته ونيته من القرءاة. أحياناً يتعمد الكاتب أن يمارس مع القراء محض ألعاب.. فقط كي يسلّي نفسه. مثلاً حين كتبتُ أن محمد الفاتح قطف وردة من أصيص فيه سبع وردات وثامنة لم تتفتح. قصدتُ –بيني وبين نفسي- الإشارة لكونه سابع سلاطين آل عثمان وأن عهده على وشك الانقضاء ليبدأ عهد جديد!

من العبث أن اختزل جوهر الرواية هنا. لكني سأقول بأن “المخوزق” في أعماقها تتطرق لمعاني الحقيقة المطلقة وتسائلُها بشدة. إنها كذلك تتعرض لتعريف الشرّ، تتكيء على أسطورة قديمة اسمها “ابن الشيطان” لتفككها وتصرح في النهاية بأن الشيطان ذاته يتضاءل في مقياس الشر أمام ابن آدم.. وهذه القيمة بالذات ستواجه  القارئ بدون مواربة في النص ذاته.

* بعض القراء اتهموك بأنك تقف في صف الشر.. أو لنقل أنك كنت حيادياً زيادة عن اللزوم وأنت تنقل تاريخ صراع دراكولا مع العثمانيين.

لا تروق لي الأعمال المسطحة التي تفرّق العالم لفسطاطين وتتحيز لأحدهما من أول سطر. بالإضافة للغته، يفترض في العمل الإبداعي أن يتحداك بأسئلته ويحرضك على التفكير لتخرج منه بقيمة مضافة. إن التاريخ الحقيقي ماهو إلا سلسلة طويلة جداً من محاولات الاستئثار بالحقيقة.. محاولات تنتمي لكل دين وعرق ولسان. وأنا سأتمسك بهذا الفهم للتاريخ في كل قصة سأكتبها.

* النهايات المفتوحة أكثر عصرانية وملاءَمة للروايات الحديثة، لماذا لم تترك للقارئ فرصة أن يطرح الأسئلة الأخيرة بدلاً عن تولّيك المهمة؟

ومن قال أن النهاية قد أجابت على كل الأسئلة؟ أعتقد أن المشهد الأخير يدفع بالقارئ دفعاً لأن يكمله بنفسه ووفقاً لألف احتمال!

* بعد عدّة أشهر من إنهاء الكتابة، ما الذي ستعيد كتابته في ”المخوزق” لو كان ذلك متاحاً؟

يالهذا السؤال المريع!.. بالتأكيد كنت سأركز في البحث أكثر لأتفادى هنّات اكتشفتها هنا وهناك. لكني كنت في الوقت ذاته سأخفف من جرعة التاريخ قليلاً وسأعطي المزيد من العمق لبعض الشخصيات. هذه دروس تعلمتها من تعليقات السادة القراء والتي كانت مثرية جداً للتجربة ككل. لكنك بسؤالك تطرح تصوراً تخيلياً أكثر من أحداث المخوزق ذاتها. لقد انتهت الرواية وأرجو أن تتيسر لي فسحة أرحب لخوض تجربة أكثر إثارة وإجادة.

* الحوارات الداخلية في المخوزق جاءت أقرب للشعر. هل لك تجربة شعرية؟ وهل قصدت أن تدمج الشعر بالنثر في روايتك؟

ليست لي أية تجارب شعرية. أما التنويع في أساليب السرد داخل العمل الواحد فهواية أثيرة لديّ. أعتقد أن الحوارات الداخلية التي أجراها أورهان مع نفسه جاءت شعرية غصباً عني بما يتوافق مع أجواء الرواية المبطنة بالمعاني الغيبية والصوفية. لا يمكنك أن تفترض مطاردة للشيطان بدون حوار نفسي كثيف بين نوازع الخير والشر.

* نعرفك كقاص خيال علمي، وها أنت تظهر لنا كروائي إنما بعمل تاريخي. أليس من المفترض أن تقدم رواية خيال علمي أولاً؟ ولماذا هذا الإصرار على الأجناس الفانتازية في السرد؟

كلٌ يغني على ليلاه يا معتز. أنا شغوف باستكشاف عوالم خفيّة،  وتسخير مفرداتها للتعبير عن همّ إنسان اليوم، الذي هو صنيعة ماضيه، وهو في الوقت ذاته لا ينفك يحمل همّ ما يخبئه له المستقبل. إننا في الحقيقة مشغولون بكل شيء إلا بالحاضرّ. ألا ترى معي أني اخترت الأجناس التي تتطرق لأكثر أحلامنا إلحاحاً؟

مازلت أحمل هم قصة الخيال العلمي وفي جعبتي أكثر من مسودة لم يحالفها الفراغ بعد. مشكلة الكتابة في هذا المجال أنها تحتاج إعداداً طويلاً لا أقدر عليه في هذه المرحلة المزدحمة من حياتي.

أشرف فقيه على تويتر @alfagih

::::::

نشر اللقاء في موقع أندية القراءة السعودية  بتاريخ  ٢٤-٣-٢٠١٣

(Visited 314 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *