في أحد المشاهد التي أداها دينزل واشنطن في فيلم مثل فيه دور (ستيفن بيكو) سأله القاضي أثناء إخضاعه للمحاكمة بتهمة تهييج السود ضد الحكومة البيضاء في جنوب إفريقيا: لماذا تسمى جماعتكم (حركة الوعي الأسود) مع أنكم لستم سودا؟ أنتم بنّيو اللون! فأجابه: وأنتم زهريّو اللون, فلماذا تقولون إنكم بيض؟؟!
بالفكرة الجارحة عن عنصرية اللون, وبجرأة معهودة، يتفجر السياج المضروب حول الحقول الاجتماعية الخفية التي تتفق ضمنيا على الإيمان بمعتقداتها، دون أن تعلنها بشكل رسمي، عن الاستحقاقات الطبقية الناشئة عن تركيبة المجتمع حيال ما يتعلق بالانتماء المناطقي/ القبلي/ اللوني، من خلال الرواية الذكية والجريئة جداً (جاهلية) للروائية ليلى الجهني..
وبتقنية روائية فخمة وآلية سرد ذات كهرباء شعرية عالية التوتر، تستند إلى جزئية منتقاة من التاريخ العربي، وترجع جذور الضوء الذي وجهته إلى هذا الحيز الاجتماعي (الحسّاس) نحو الجسر الذي لم يوقف التدفق الفكري الذي كان سائدا في الجاهلية، مثبتة من وقائع معيشة غالبا ومن بعض ما تواترته كتب التاريخ والسِيَر، أن التغيير الناتج عن القيم الإسلامية الجديدة -في ذلك الوقت- التي تحمل في ثناياها نبذ العنصرية وإحلال المساواة لم يكن إلا وقتا مستقطعا، عادت بعده الأمور إلى طبيعتها الأولى.
في الصورة التي اتخذتها لتدعيم عمل أنتجته عشر سنوات من الهدوء، قامت ليلى الجهني بتوظيف ما هو ممكن من التقنيات التي تؤيد ما ذهب إليه وعيها حول العنصرية المعيشة في القرن الحادي والعشرين، بدءا بغلاف النص الذي تصدرته صورة صنم جاهلي، في إيماءة واضحة إلى استمرار معبودية المجتمع للفكر الذي تسرب عبر نفق الأيام دون تغيير إيجابي يذكر -هذا إن لم تزدد سلبيته نموا مع مرور الوقت- مستعينة إضافة إلى ذلك بما هو ميت من أسماء جاهلية للأيام والتواريخ التي أدرجتها في الرواية لتفعيل آلية الزمان كأثر محرك للأحداث التراجيدية التي تمر بها (لين) بطلة الرواية الرئيسية متخذة من تاريخية المدينة المنورة تحديداً موقعا لتصوير روايتها.
وإذا افترضنا أن دهشة الكتابة الحقيقية تكمن في العمق الذي يحققه الفنان كنتاج لتأملاته وطريقة تناوله للأحداث والأفكار -دون أن نأخذ بالاعتبار الفكرة ذاتها- فإن نص (جاهلية) يحقق هذه الرغبة الحادة والصعبة، في معادلة العمق بالسطح والمحسوس باللامرئي، وبما يتطلبه هذا الجهد من دقة وانضباط لا تخل بحرية الفنان في كيفية تعاطيه مع الكتابة.
تبدو قصة مألوفة أن تحب فتاة بيضاء نشأت في ظرف اجتماعي خانق رجلا أسود، ويرفض أبوها تزويجها به (لئلا يأكل الناس لحمها)، فمنذ عنترة الجاهلي وحتى يومنا هذا يندر ألا ينظر الناس بعيون الأذى إلى رجل أسود بصحبة امرأة بيضاء!، لكن غير المألوف هنا هو تناولها بهذا القدر من الغوص نحو قاع الحالة دون الاكتفاء بقشورها، ومحاولة تفكيك معطياتها الاجتماعية من خلال الامتداد التاريخي وطبيعة التركيبة الديموغرافية في الجزيرة العربية، التي يتحدث إنسانها بمنطق القبيلة والنسب أولا، ثم بما استجد بعد ذلك من تغييرات شهدها المكان، مما شكّل هيكلا للتعامل القائم على التصنيف الطبقي على اختلاف أشكاله.
ومن غير المألوف أيضا أن يحتوي عمل فني يبدو اجتماعيا -بحكم الفكرة التي يطرحها -على هذه الفسحة الكبيرة من التركيز على تفسير الحالات الإنسانية المتضاربة للشخصيات التي تناولتها الرواية، مكونا بعدا فلسفيا سحيق العمق تجاه الإنسان الخالص الذي تمتزج مثالياته بقيم العالم المادية المحيطة به فتأخذ الشخصيات في حواراتها الذاتية وجها يحمل بذرة الخير ويسقيها بماء الشر، يحمل سيف السؤال البسيط/ القاتل، ليطيّر, بملء إرادته الإنسانية, عنق الإجابة التي يبحث عنها..!
إن من المدهش أن الموت الذي يطرح نفسه كعلامة استفهام ضخمة في النص، يطل في روح العمل مرارا كأنه لازمة الحياة التي تحمل مفتاحا وحيدا للخلود، فيتكرر مقتسما الوقت النادر الذي يلتقي فيه العاشقان (لين/ مالك) ليجعل من نفسه أضحوكتهما -ولو لبعض الوقت- ثم يأتي مع كل أبطال العمل، كوجه قادر على التحكم بعضلاته، وكشريان يغلق متى يشاء، ليعود وينثّ الدم متى ما أراد لعظمته أن تحلّ! : (لم اعتقدَت أن مصيرها بيدها، وأن حياتها لها، ولن يسلبها منها أحد؟) صـ95ـ
لا يتمثل الإبداع الحقيقي الذي تركه الحس الطاغي لدى ليلى الجهني في الجاهلية الجديدة المكتوبة رواية رائعة فقط، ولا في أعمدة الجاهلية الأولى التي دحرجتها تحت أرض نصها الفاتن، بل في الجاهلية الحقيقية التي يعيشها الإنسان باحثا عن إنسانيته التي تغرقها الأسئلة الخاطئة حينا, والإجابات التي تستخدم في مراسم العزاء والمناسبات الاجتماعية حينا آخر, هي تلك الجاهلية التي تبقي القوة البشرية مدفونة ضمن آلاف الأشياء التي تمر بها قبل أن يعلن العقل الجامح عن حرقه للأشواك والأصنام، الجاهلية التي تهدم الجسر الممتد بين الاندفاع من الرحم والسقطة في معدة الأرض قبل أن يكشف الإنسان بشريته بكل آثامها ونبلها، الجاهلية التي تقوّض الإنسان قبل أن يتخلص من جاهليته..!
جريدة الوطن- 20 مارس 2007