(أغمضت عيني, وبكيت …)
بلقطة قهرية لا تلتقطها إلا عدسات الريف, يضغط ماجد الثبيتي على وظائفه الحسية ليسحب ذاته نحو لحظة تشجعها على الحيرة بين استفراغ الذكريات السيئة, أو ابتلاع أقراص (منطقية) تساعد على تسكين حقده على اللحظة: (كأن أغفو ببطء و أنحد نحو القاع…), وإذ سار به السرد إلى ساحة سلبية بين الاختيارين كان لا بد أن يبوح بالروابط (الغير متحفظة) ليشكل تخطيطا منظما لنصه ذي الكيميائيات المتعددة, مما سينتج عنه انفجار قنبلة في نهايته.
يؤمن ماجد بالتغلغل نحو قارئه انطلاقا من تطرفه المطلق لصالح البطل (الأنا), كأنه يعمل على بث موجات لا تدفع قارئ النص إلى التعاطف مع البطل بقدر ما تحضه على الاقتناع بوجهة نظره, وربما تقمص شخصية البطل وسعى إلى إدخال نفسه غرفة عمليات النص, ليمارس الفعل الشعري ويعالج نفسه بالخيالات التي يجريها الكاتب على أفراده.
إن الأسئلة التي يطرحها النص وإن بدت عادية في التشخيص المبدئي, لكن تتابعها بصحبة (السائل الشعري) الذي يحولها إلى أسئلة (فاجعة) ينم عن أعضاء غضة في عقل الكاتب يستثمرها في تحفيز (أدويتها الأولية) على الحد من (سرطان التكرار): (من الذي يرعى قطيع الكلاب في القرية؟ من الذي يحلب نباحها؟…) وينقذها من تدخل الجراحين – الأصوات الأخرى/ التداخلات المزعجة/ عوامل الأثر السلب – ساعيا بذلك إلى صورة غير نمطية, رغم النتوءات السردية الطفيفة التي لا تشكل عائقا في تشخيص هوية الكتابة.
ورغم أن كثيرا من أعراض النص تشي بجدته وحداثة تجربته, لكنها تسمح لرغبة قوية في الدخول بعمق نحو (مختبر السرد) لإثبات قدرات الخلايا القصصية (الغير نشطة كليا) ومحاولة فرض نشاطها والاعتراف بها كـ كائن لا مناص من الاعتراف بوجوده, حيث أن الأشياء المحسومة لا تحتاج إلى تأكيد ما تقوم به ليعرف الآخرون بها بعكس التجارب الجديدة التي تحتاج إلى إيضاح ما نقوم به وتعمل وتشتغل على استظهاره, وإظهاره:
(فدققت أنا بالتحديق أكثر …)
مما يميز النص هو (الضغينة الحكائية) فيما يتعلق بسرد الماضي بالأفعال المضارعة كدليل على استمرارية الدوافع (الأعراض) التي ساقته منذ البداية إلى الإعلان عن (عدم إعاقته الفنية) ذلك أن الحقد (الإيجابي) الذي يشكل نواة جيدة للتميز/ الخوض بعيدا عن الوحول المتشابهة, يفتح دهاليز الخيال, ويطلق أشعة العقل نحو إضاءتها واستعادة الأسباب الرئيسية لبروز المرض الفني (باعتبار الفن حالة مرضية لا يرجى الشفاء منها), وفي حالة كهذه يلجأ اللاوعي إلى الطفولة/ الـمَنفذ الـمُنقذ, ويبدأ حالة من التوحد الخيالي, ليختلط ما هو عقلاني بما هو ميتافيزيقي, ويسير في حالة من الإيقاعات التي تشبه تخطيط القلب, تعلو وتهبط بحسب الرواسب التي يفرضها الزمن:
(أبي مات منذ عام, والحصاد الذي يحمله على رأسه, هو رأسه يا غبي ألا ترى جيدا؟…)
وفيما يتسق مع الشعلة الحادة التي يحملها والأسئلة الجادة التي يطرحها لا من أجل الوصول إلى جواب بل من أجل إفساح المجال نحو أكبر كم من الاحتمالات التي قد تقود إلى الطريق الصحيحة, حيث يرى أنه ينبغي له الوقوف فيها, (دون محاولة للتدقيق في ماهية ما تحمله الإجابات) حيث أن المعرفة بذاتها لا تشكل له هدفا أساسيا– على الأقل في الوقت الراهن– بقدر ما تهمه التجربة والرهان على ما لم يعرفه وما لم يتشكل له كما يريد: (لم نعرف بعد, و لكننا نتنافس…), فإن المفاجأة تتأتى من مكمن الجرأة– من نصفه الذي ينافسه– حيث يفجعه بالسؤال الدائري– الذي لا جواب له- الذي يزعزع ما ثبت في ذاته, ويقدم الصدمة– بالتالي– كوسيلة تساعده على تمكين نفسه من أدواتها, وتطرح الأسئلة التافهة التي تتكرر دون أن يراها أحد ودون أن يمل أحد من كثرة تكرارها كقنبلة, كالسؤال المفاجئ الذي ألقاه بكل برود:
(لماذا الليل أسود ؟..)
وكأن الكشف العظيم/ التافه, كان مربكا لمعتقده, وبالتالي كفيلا بسوقه نحو تكديس حقده وانفعالاته في صورة النص الذي يكتبه, مثبتا أن التجربة/ الصدمة هي الضرورة التي يجب أن يعيشها الفنان إذا أراد لفنه أن يستقل, وأن الكشوفات الأولية لا تعطي نتائج حقيقية دائما, بقدر النتائج التي تعطيها التحاليل الدقيقة التي تكشف الضعف والقوة وتقدم الحلول الأنجع للمشاريع الفنية المهمة, دون إهمال لما يجب أن يلتزم به المريض من الجرعات العلاجية المكثفة!!
ملف أسفار الثقافي- مجلة فواصل- 2008