حوار: طامي السميري
لستُ روائيًا سعوديًا، ولم أجامل السعوديين على حساب الفلسطينيين!
لا يرى الشاعر والكاتب الفلسطيني معتز قطَّينة، أنَّه جامل السعوديين على حساب الفلسطينيين في كتابه (الجنسية)، في ذات الوقت الذي ينفي تعمَّده توجيه كتابه إلى السعوديين، من خلال الكتابة عن قضاياهم، واختيار الغلاف المُلفت للكتاب الذي أتى قريبًا من هيئة جواز السفر السعودي، عن تجربته في عمله السردي الأول، والذي ينفي صفة (الرواية) عنه، وتفاصيل أخرى، كان لنا معه هذا الحوار:
الروائي الفلسطيني عندما يكتب السرد فإنه يكتب تحت قضيته الرئيسة وهي الازمة الفلسطينية وقضية الاحتلال الاسرائيلي، هذا الأمر يجعل الفضاء السردي يضيق على الروائي وبذلك تكتب روايات في ذات الشأن، في روايتك ذهبت بعيدا الى حدٍّ ما وكتبت عن قضيتك الشخصية وهي أزمة (الجنسية)، كيف تقرأ ما أنجزه الروائي الفلسطيني بشكل عام وإلى أي حد تتقاطع روايتك مع هذا المنجز؟
– إذا اختار الروائي الفلسطيني أن يستمر في الكتابة تحت ما سميته بـ (القضية الرئيسية)، فلن يكون ثمة مجال لكتابة أدب فلسطيني حقيقي، لا أدري إن كان موضعاً مناسباً للجدل حول ماهية الفن، وإن كان توظيف القضايا ينتج في النهاية فناً خالداً، إذ لا أرى بالضرورة وجود سقف لقضية ما كي يتمكن الفنان من الكتابة تحته, باستثناء أن يتحول الفن بذاته إلى قضية رئيسية! الروائيون –والكتاب عموما- الفلسطينيون سيكونون بخير إذا أدركوا هذا، وَهم أقدر مني على تقييم منجزهم.
كوني كتبت نص (الجنسية) بدافع من مكونات حياتي الشخصية، فذلك لا يعني أن أجعلها قضية رئيسة لي، إنني ما زلت أتساءل عن السبب الذي جعلني أختار (الجنسية) محوراً، ربما إغراء الفكرة الجديدة وعدم التطرق إليها، هو ما قادني للكتابة عنها، أما عن تقاطع ما أكتبه مع المنجز الروائي الفلسطيني، فلا أظنه كبيراً باستثناء ما يحمله التراكم التاريخي للفلسطينيين عموماً.
الكثير من الروائيين العرب كتبوا عن السعودية وكانت مسرح لأحداث رواياتهم، لكنهم كتبوا بعد أن غادروا البلد، أنت كتبت وأنت ما تزال مقيمًا، وما زلت تعيش حالة الانتماء، كيف ترصد حالة المغايرة والتشابه بينك وبين من كتبوا تلك الروايات؟
– براري الحمّى، نجران تحت الصفر، والطريق إلى بلحارث، وغيرها, كتبت كلها في ظرف مختلف تماما عن الظروف التي كتبت فيها (الجنسية)، أولئك الكتاب عاشوا هجرة مركبة بين التهجير القسري والخروج الاختياري لمحاولة تعويض الغربة بمكتسبات البناء الذاتي: التركيز على التحصيل العلمي ثم تحويل الميزة الأكاديمية إلى بوابة للرزق، وحاولوا سدّ الفراغ الذي خلقته التغريبة فيهم بالعمل، والمال. أتساءل إن كانت كتابتهم عن السعودية بعد خروجهم منها جاءت بدافع الخوف من ردة الفعل الشعبية أو الرسمية للدولة – مع الأخذ في الاعتبار أن وجودهم هنا كان وقفة نبيلة من طرف الحكومة السعودية تجاه أوضاعهم كما أعلم- أم أنّ الوضع الثقافي في تلك الفترة، لم يكن يسمح بإصدار أعمال أدبية، الذي أجزم به –رغم اختلاف الظروف- أن أحداً لم يمتلك الشجاعة الكافية للكتابة عن السعودية أثناء إقامته فيها، وأنا فعلت!
برغم أنك تقدم أزمة الهوية المزدوجة، إلا أنني لاحظت أنك سردت حكايتك بذهنية الروائي السعودي، ليس على مستوى تقنية الكتابة وحسب، بل وجدت ذلك في الهموم والقضايا التي تم طرحها وكأن روايتك موجهة للقارئ السعودي؟
– وهل كان يفترض بي أن أضفي ازدواجية على هويتي ككاتب لكي أتمكن من كتابة النص؟!، ثمة شيء جدير بالتوقف عنده: إذا كنا نستخدم مصطلح (الروائي السعودي) فإن هذا يعني وجود شكل واحد للكتابة في السعودية، وهذا ما لا أوافق عليه، أتصور أنّ هناك توسعاً في ذهنية الكاتب السعودي والمتلقي أيضاً، وأصبحنا نقرأ أعمالاً جميلةً خارجة عن إطار (الهموم والقضايا) التي نتصور أنها مثيرة للقارئ السعودي (ساق الغراب لـ يحيى امقاسم، وفتنة جدة لـ مقبول العلوي)، كما أن هناك تقنياتٍ جديدة ومساحاتٍ غير مستهلكة يتناولها الكاتب السعودي في أعماله، ويعمل على ابتكار صور جديدة للكتابة المحلية (حياة السيد كاف لـ علي الشدوي)، ومن ذات الأفكار أظن أنني كتبت (الجنسية) بعيداً عما سبق وأن تحدثت عنه روايات بداية الطفرة الروائية (2001 وما بعدها)
وجدتك تختزل الأحداث وتمر على تفاصيل كانت تحتاج التمهل، بهذا الاختزال أعتقد أنك فرطت في تدوين سيرة سردية لأجيال فلسطينية كانت تحتاج هذا الرصد السردي؟
– أتوقف دائماً لدى حاجز الكلمات الكثيرة، ولا أ خجل من القول إنني كنت فزعاً من الانحدار إلى مستوى الثرثرة، والوقوع في مطب الإعجاب بما أكتبه أو التآلف معه على أقل تقدير، أعرف أن السرد مغرٍ، وأن التجربة الأولى فيه قد تكون متنفساً لإشباع شهوة الكلام، فلم أتردد في تمزيق العمل عدة مرات وإعادة كتابته، كنت أكتب حتى أظن أنه اكتمل، وإذا تمكن مني هذا الظن شطبت كل ما كتبته وعدتُ لبنائه من الصفر. أما عن تدوين سيرة للأجيال الفلسطينية فأظن أنني أمتلك الوقت الكافي لتدوينها لاحقاً إذا تيقنت قدرتي على ذلك.
لاحظت أنك أحيانا تغرق في توصيف قضايا المجتمع السعودي ورصدها بشكل مختزل على حساب صوت بطل النص وقضيته الشخصية، حتى إن شأنه المنزلي غائب عن التوصيف ماعدا قضية الدراسة لذا غابوا أفراد أسرة بطل النص، بماذا تفسر هذا الأمر؟
– ليس تفسيراً بقدر ما هي حاجة للكتابة، فالنص قائم على شخص واحد يحمل مسألة محددة بكل تقاطعاتها مع حياته، ولم أرَ حاجة لاستدعاء الأسرة –أو غيرها- إلا في إطار ما تستدعيه هذه المسألة، أما توصيف قضايا المجتمع السعودي وتناولها فهي ليست أكثر من دلالة على انغماس الشخصية في المجتمع، للدرجة التي يصبح فيها قطعة من نسيجه، ويمنح نفسه المايكروفون للتحدث عما يدور في بيئته، ربما بعيداً حتى عن الأسرة التي يختلف عنها وتحمل هموماً غير ما يحمله.
البعد الدرامي في النص غائب، فما نجده في النص هو مسح سريع لنشأة شاب عاش في السعودية، هل مبرر غياب الدرامية في النص لأنه قائم على طرح قضية وليس لأنه نتاج لعبة سردية ولهذا غاب فن الرواية عن نصك ؟
– سأتفق معك على أن النص ليس ناتجاً عن لعبة سردية، لكن عليك أن تجد منفذاً للأسئلة السابقة التي تناولت النص باعتباره رواية. قلتُ إنني لا أملك الجرأة اللازمة لتسمية النص بـ (رواية) ولا أستطيع أن أستسهل ذلك، دار النشر هي التي اختارت وسْمَ الغلاف بهذا التصنيف لاعتبارات الترويج فيما يبدو، الصورة التي أرسمها في ذهني للعمل الروائي صعبة ومعقدة، تحتاج دربة وصبراً وقدرة على اختراع تقنيات كتابية، وقدرة على تفعيل الخيال الدرامي، وقد أدركت أنني لست مستعداً بعد لكتابة رواية بالمفهوم الذي أطمح له في هذا النص، لذلك ركزت أكثر على (الكتابة السردية)، أن أستطيع الانطلاق بما أريد قوله مستمتعاً وممتعاً، وقادراً في الوقت ذاته على التوقف في اللحظة المناسبة، حاولت – قدر الإمكان- ألا أجعل النص مسرحاً لعضلاتي اللغوية، وأقنعتُ نفسي أنني إذا واصلتُ الكتابة فيه فلا بد أن أقبل شكله النهائي كيفما تكوّن، فليكن إذاً نصاً بلا جنسية!
شعرت أنك تحاول تكتب في حالة حياد بين تدوين صورة الإنسان الفلسطيني وكذلك الإنسان السعودي، لكنني لاحظت أنك أكثر تسامحاً مع الإنسان السعودي –هل كان في داخلك حالة من الارتباك في تصور ردود الفعل من القارئ السعودي؟
– لا، لم أكن مرتبكاً ولا قلقاً من ردود فعل القارئ السعودي أو غيره، الذي يفتح روحه، ويغامر بإعلان ما يكتبه فليس له أن يضع تصوراً لردود فعل القارئ أثناء الكتابة، وليس باستطاعتي ارتكاب خيانة كهذه مع الكتابة.
حضور الفتاة السمراء هو ترميز إلى شيء ما، لكن ظل هذا الحضور الرمزي غير مؤسس داخل النص، كيف ترى حضور هذا الرمز؟
مجرد الكتابة السردية التي ركزت عليها أثناء الكتابة لم تكن كافية لوجود كتاب مقنع، لا أرغب في تبرير وجودها من خلال ما سأقول، لكن السرد دفعني إلى إيجاد شخصية موازية لحياة الشخصية الرئيسة في النص، مسألة الحضور المؤسس تدخل في إطار بناء الشخصية الروائية، وهو ما لم يكن ضمن أهدافي، إذ ليس بالضرورة أن أؤسس للشخصية، بقدر ما يشكل مسارها في النص شرعية هذا الوجود.
الجزء الأخير من النص تحول الى خطابية وتقرير عن المجتمع السعودي، هل تجد الامر كذلك؟
– أحياناً، وأثناء الكتابة، قد لا تكون هناك إلا طريق إجبارية يجرفك إليها النص، الأمر أشبه بالورطة التي لا تمنحك إلا طوق إنقاذ واحد!، وإن كنت موافقاً على الصوت العالي والنبرة التقريرية التي حملها الفصل ما قبل الأخير في النص، لكنها كانت الصياغة الوحيدة لما يرغب البطل قوله.
في انتقال بطل النص الى الرياض، لم يشعرنا بفوارق الانتقال من مدينة جدة الى الرياض وخصوصا على مستوى صورة الانسان الفلسطيني في تلك المدينة، لماذا غاب رصد هذا الفارق؟
– ثمة صورة راسخة في أذهان الناس عن كون الرياض مدينة جافة وعنصرية، تجاه كل ما هو قادم من خارجها، لكنها –وهي مدينة الصحراء والإسمنت- تحمل وجهاً ربما لا يدركه الكثيرون، ولم تتوفر لهم الفرصة للتعرف عليه، كان هذا الوجه الذي عاشه بطل النص، وتعايش معه، لا بدّ أن هناك نواحٍ سلبية فيما يتعلق بمسألة الاختلاف الثقافي، وقد أشار لها النص في الأسئلة التي يتعرض لها: (من وين انت؟ انت سعودي؟) لكنها لم تكن مؤثرة بذات الطريقة التي أثّر فيها الوجه الجميل للمدينة عليه.
هناك لمحة ملائكية تم إلباسها بطل النص، حضور هذه الحالة التجميلية للبطل هل هي عائدة لأن مافي النص هو تدوين لما يشبه السيرة الذاتية؟
– لم أتنبّه للمحة الملائكية التي تعنيها، الخير والشر بمعانيهما النسبية لم يحضرا في النص، و مرة أخرى أقول إن النص بعيد عن السيرة الذاتية –إذا أخضعنا النص لشروط السيرة– ولا يقترب منها، ربما لم أسلط الضوء كثيراً إلا على الجانب الملائكي من الشخصية، لكن هذا جزء منها فقط، وأجزم أنها تحمل بالمقابل شراً ما.
هل تشعر بأن حضور شخصية واحدة في النص، جعل النص في حالة من الضعف؟
– شخصية واحدة رئيسة، هي التي تسيّدت النص، لكن فصولاً بأكملها رصدت شخصيات مختلفة، ونماذج للشخصية الفلسطينية في السعودية، أبو تيسير، عطا، وصبحي صائب، كما أن الشخصية الرئيسة رصدت –أو استحضرَت على الأصح- حياة أبويها قبل مجيئهما إلى السعودية، وجود هؤلاء بتفاصيل ليست بسيطة، ينفي أن النص حاضر بشخصية واحدة فقط. وإجابة على السؤال: النص ليس ضعيفاً.
لماذا غابت المرأة في هذا النص وسقطت من ذاكرة الراوي؟
– أكتب عن الفترة الممتدة بين مطلع الثمانينيات وبدايات القرن الجديد، نظرة اجتماعية خاطفة إلى الحياة في السعودية خلال هذه الفترة، ستمنح جواباً حقيقياً عن سبب اختفاء المرأة في النص.
غلاف الكتاب كان رائعًا، كيف خطرت على بالك هذه الفكرة؟
– مثل أي فكرة، لا أدري كيف بدأت، لكنني أؤمن أن النص دائماً لا بد أن يحمل فكرةً مختلفة وجديدة في كل تفاصيله وليس في الكتابة فقط، من هذا الإيمان جعلتُ الكتاب كاملاً على هيئة جواز السفر السعودي: الغلاف، الصفحات الداخلية التي حملت الرقم المثقوب، وتأشيرات المرور التي كانت بين فصل وآخر، على صحن مندي خطرت لي هذهِ الأفكار كلها (يبتسم)