أسئلة كثيرة أحاطتني عندما أفضيت إلى نفسي برغبة الكتابة عن (السجين 32) : ما الذي تجب الكتابة عنه في هذا الكتاب؟! التاريخ الوطني الطويل لأبي الشيماء، الذي نعرف نتائجه الحاليةونجهل أغلب تفاصيله التي أفضت به إلى ما هو عليه؟! أم الجرأة التي اعتمد عليها صاحب التاريخ وكاتبه الذكيّ، الذي لم يفوّت متعة القراءة على كل سطر أنفقه للخروج بهذه الوثيقة الضخمة، شاهدةً على زمن ما زال يتدثر بالعتمة؟! أم الحس الوطني النبيل بالمسؤولية، الذي يبدو أنه توازى مع رغبة السجين وكاتبه تجاه تقديم التاريخ كما هو، والحفاظ على المفاصل الهامة فيه دون تحيز إلى طرف أو تمجيد للذات والأشخاص؟! أم المواقف الوطنية المشرفة لشخصيات نعرفها بالاسم، ونجهل وقفاتها النبيلة التي ساهمت في تغذية الذهنية الجمعية لذلك الجيل والأجيال التي تلته؟! أم أتجاوز عن ذلك كله وأكتب عن العاطفة الإنسانية الحارقة التي انسابت برفقتي طوال قراءة هذه الصفحات الثرية لتاريخٍ نحن أولى بمعرفته، وأحق بالاطلاع عليه بدلاً من إسدال الستار على الماضي؟! هذه الحكايات التي وردت في الكتاب، والأسئلة التي طرحتها على نفسي، تستحق بمفردها التناول في عمل مستقل، ذلك أن الكتاب لم يقل كل شيء، لكنه قال كثيراً، بل وأكثر مما ظننتُ السنين تخبئه..!
ولأنني أجزم بعدم قدرتي على اجتزاء شيء من الأسئلة، أو الوقوف على كل ما ورد في العمل، خصوصاً أن التاريخ المشرف لأبي الشيماء، يدركه أغلب المهتمون بالشأن العام، ويعرفه عن قرب من عايشوا المطالبات الشعبية للمشاركة في الحياة السياسية للبلد، ويعلمون جيداً أن الذي كان يوماً ما (السجين 32) الإنسان، متجاوز للتفكير فيما يمكن أن يُكتب عنه، وأنه أبعد من مطاولته بكتابة عابرة، ولتوقعي أن أغلب من سيتناولون الكتاب بالنقاش والمشافهة، سينصب تركيزهم على التاريخ ذاته، وشخصيته المحورية، لذا، رأيتُ التجاوز عن أسئلتي جميعها، والاحتفاظ بها إلى وقت ربما يكون أكثر اتساعاً لإشباعها، ورأيت الكتابة عن الجهد الذي لا يستهان به للمؤلف الذكي، والصحافي النابه أحمد عدنان.
في هذا الكتاب، يؤكد أحمد عدنان مهارته النادرة في التوثيق من خلال الكتابة، تلك المهارة التي ظهرت بوادرها في سلسلة مقالاته التاريخية التي نشرها في صحيفة الأخبار اللبنانية، أسباب هذه الندرة، تتجلى في الاتكاء على مصداقية المعلومة بعد التأكد منها وتوثيقها، ودعمها بعدة مصادر وآراء، وتقديمها بلغة سلسة، بارعة، قادرة على تجاوزِ مجردِ تدوين الحدث إلى منحه بعداً حيوياً، يشعرك أنه أقرب إلى السرد الروائي المتقن، الذي يمنح القارئ مساحة لمعايشة النص، والتفاعل معه، والانفعال والتأثر، دون أن يحدد هدفاً مسبقاً يوصله إلى القراء، بل يكتفي بفتح الطريق بين الحدث وقارئه، وينأى بنفسه عن المشاركة، أياً كانت النتيجة التي سيصل إليها القارئ!
ورغم صعوبة القبض على ما يجب قوله، وكيفيته، باعتبار تناوله للمسكوت عنه من تاريخ المحاولات الجادة للحراك السياسي في السعودية، إلا أنه استطاع تجاوز العقبة الإشكالية في ما يصطلح على تسميته بالموقف بين المثقف والسلطة، حيث أنّ حدّية بعض الأحداث، واصطدامها الشديد بكل ما هو غير معلن، يجعل تقديمها في صيغة حيادية أمراً على درجة من الخطورة، وربما شكّلت -إذا توفّر لها من يحبون الاصطياد في الماء الآسن- فرصة لتلويث المساحة بين الكاتب المواطن، والسياسي المتفرد بالقرار! هذه مسألة تجنّبت نباهة (أحمد عدنان) الوقوع فيها، إذ صنع بلغته الدقيقة نموذجاً يمكن القياس عليه لاحقاً للاستفادة من تجربة الكتابة في الشأن العام دون الانزلاق إلى المساحة الرمادية مع السياسيّ.
كانت مهمة شاقة بكل تأكيد! أن يتمكن الكاتب من سرد الأحداث الشخصية لأبي الشيماء، بكامل خصوصيتها، ومشاعرها الإنسانية، أزماتها ومآسيها، أفراحها وتقلباتها، مزاجها الخاص والاضطرابات التي تفاعلت فيها مع الأحداث المحيطة بها، والأحلام الضخمة التي تكتنف هذه الشخصية ذات الهمة العالية، والتوفيق بين نقل هذه المشاعر بحيادية الصائغ الصادق، الذي لا يعمل على تلميع هذه المشاعر، بقدر ما يضعها أمام الجمهور الراغب بالتعرف أكثر وأكثر على خبايا هذه الشخصية المثيرة للأسئلة، والفاتحة أبواباً للجدل! أقول إنها مهمة شاقة، أن تتمكن من تتبع الأحداث الشخصية، ومزامنتها مع تفاصيل الحياة العامة للبلد، وربط الأحداث ببعضها دون الخروج عن السياق، أو الابتعاد الخط الأساسي له، كما استطاع أيضاً أن يفتح نافذة على الأحداث الخارجية وأن يمنحها سلطة فرض الحدث أحياناً، وتماهيها مع التيار العام في أحيانٍ أخرى، دون تشتيت للقارئ، أو تفريطٍ في ترابط الصورة ووضوحها.
لقد كان (أحمد عدنان) حارساً أميناً لأحزان الطيّب أثناء كتابتها، كما كان – بلا شك- مخلصاً وهو يتناول التجربة بأحلامها، ويقرنها بما يطرأ على الساحة السياسية من مستجدات وتغييرات، وكان مؤمناً أن إظهار الحقيقة لن يكون مضراً إلا إذا التفّ عليها وعمد إلى تمويهها، وأجد من المهم الإشارة إلى أنّه يكاد يكون الكاتب الوحيد الذي تجاوز عقدة الكتابة بأريحية (ومهنيّة عالية) عن شخصيات تدير مناصب حيوية وحساسة في الدولة ما زال أكثرهم على رأس العمل، بالتصريح حين يقتضي الأمر، وبما يشبه التلميح الصريح إذا استدعى الحدث ذلك (وهو استخدام قليل على كل حال) دون أن يمسّ رمزية الأسرة المالكة، فكشف بذلك عن وعي عميق في التفرقة بين رمزية الأسرة التي تمثل قمة الهرم في الدولة، وبين مناصب السلطة التنفيذية التي يشغلها أعضاء الأسرة المالكة¹، وهو ذاته الوعي الذي قاده برفقة مهارته الصحافية، إلى استدعاء بعض مقالاته التي كتبها سابقاً، لتمنح السيرة مزيداً من البحث الجاد والموضوعي، عما يرتبط منها بالتاريخ الشخصي لأبي الشيماء، مدعمة بالعديد من الشهادات الشخصية (على اختلاف روايات بعضها وتقارب بعضها الآخر) لرجال عاصروا ذات الأحداث، وساهموا في صناعتها، وكان بعضهم عنصراً رئيساً في رسم التصور للتحركات الإصلاحية التي خاضها ذلك الجيل المثخن بالأحزان، والممتلئ بحنينٍ إلى وطنٍ لم تكتمل فيه أحلامهم بعد.
كان الفصل الأخير للكتاب، بمثابة هدية إلى جيل الناشئة، حين تصدّى (أحمد عدنان) إلى إعداد سيرة مختصرة عن حياة الشخصيات التي ورد ذكرها في الكتاب، فاتحاً بذلك باباً مشرعاً على التاريخ، وكأنه يحفّز هذا الجيل، الذي لم يعش الصراعات الطويلة التي خاضها الجيل السابق، ولم يتجرع –حتى الآن على الأقل- ذات المرارات التي تجرعها آباؤه، لقد شكّل هذا الباب حجر معرفة أساسيّ لتقديم شخصيات ما يزال بعضها مجهولاً بشكل كلي، وغائب عن وثائق التاريخ الرسمي، الذي لم يعد مصدراً كافياً للاطلاع والمعرفة في زمن الشبكات الاجتماعية، والتقنيات الحديثة في التواصل والبحث عن المعلومات، وإعادة كتابة التاريخ، بل والمشاركة فيه، حيث لم تعد كتابة التاريخ حقاً للسياسيّ وحده، ولا للمنتصرين وحدهم، فكما لصاحب الظفر عين يرى بها ويكتب وفق رؤيتها، فإن للمهزومين أيضاً أعينهم ووعيهم، ورؤيتهم للجانب الآخر من الصورة، الجانب الذي تكتمل به الصورة!
ليس في هذا الكتاب العذب أية دعوة للسخط على الماضي رغم ما يعتريه من الألم، ولا يحمل نوايا سيئة تجاه ما تراكم من أخبار الأمس وظل محاطاً بالسرية والكتمان، رغم أن اختباءها لم يكن ضرورياً، كما لم يكن خروجها إلى النور متوقعاً، إنه أحد أذكى الكتب التي أفصحت عما ينبغي أن يقال بالشكل المناسب، وفي الوقت المناسب، هي هكذا الأحلام، تأتي محمّلة بخيالاتها وأسرارها، ولا تظهر إلا عندما يركن المحارب إلى ذاكرته، ينظر لها بألم المجرّب وحزن الحكيم، وهو يستقبل من تأملاته ما يستقبل، ثمّ ينظر بحنوّ العارف إلى الجيل الجديد من الشباب النهمِ إلى الإصلاح، عيناه تلمعان خلف نظارته، وهو يضع يده على كتفه ويسرّ له: ستكون أحزانك كثيفة يا ولدي!
:
(1) نشر أحمد عدنان في صحيفة الأخبار اللبنانية مقالاً بتاريخ (7/4/2010م) تناول فيه بجانب من التفصيل مسألة الفرق بين الدولة كنظام، والحكومة كسلطة تنفيذية، يمكن الرجوع إليه في صفحته الشخصية عبر الفيس بوك على الرابط التالي: مسألة منهج: موالاة “النظام” والاختلاف مع “الحكومة ”