دراكولا.. بدمٍ شرقيّ

لا يمكنني تجاوز كونها أول رواية أقرؤها عبر كتاب إلكتروني حقيقي، وهي تجربة تضاهي متعة المجازفة التي قام بها أشرف بتأجيل الطبعة الورقية لروايته “المخوزق” (صدرت لاحقا عن دار أثر)، والاكتفاء بنسختها الإلكترونية الصادرة عن دار سيبويه للنشر الإلكتروني، هل سنودع الورق؟! يبقى هذا سؤالا ضخما يحدده مريدو الكتاب -القليلون في سوق الاستهلاك العربية- ومدى قدرتهم على التخلي عن تدوين الملاحظات على حواشي الكتاب وهوامشه، واستبدالها بالملاحظة الإلكترونية المذهلة والسريعة!

تمثل الرواية -في المشهد الروائي السعودي- حلقة في سلسلة الأعمال الجديدة تنأى عن الصورة التقليدية التي عرفت في السنوات الفائتة، وتنضم إلى الأعمال التي اختارت مساحة بِكراً لم يتم تناولها، مثل “الحسين” لعلي الشدوي، و”فتنة جدة” لمقبول العلوي، مما يشي أن الروائيين يبحثون الآن عن أعمال لا تقدم نفسها لمجرد التواجد، بقدر ما تخوض رهاناً حقيقياً على الأفكار والمواضيع، ومحاولات تقديم أعمال نوعية تهتم بالقيمة على حساب الظهور، وبالفكرة على حساب اللغة المستهلكة، وتحتفي بالموضوع على حساب التعطش للشهرة والانتشار التجاري السلبي.

نحن إذاً أمام روايةٍ أولى لمؤلفها، أراد فيها الحفاظ على المفهوم الكلاسيكي للرواية، وأظنه أكثر ذكاءً من التورط في كسر القالب، لذلك أقول إنه أراده على هذا النحو، فالذي يجازف بفكرة حديثة على الرواية العربية (بلا مبالغة) لن يورط نفسه في مغامرة المبنى الروائي، أو تقنيات السرد، وهذا يحسب له.

رواية تاريخية، لحدث حقيقي، تم استثماره عالميا في الأدب والسينما، وتم تسليع الحكاية على عدة مستويات تجارية وفنية، حتى غاب الجانب الآخر من الرواية، الذي يقع في الشق الشرقي للحدث، وهو ما اعتبره “أشرف فقيه” مهمته، فقرر إعادة كتابة الأسطورة الكلاسيكية “الكونت دراكولا” معيداً إياها إلى سياقها التاريخي، مستنداً على التراث الشرقي هذه المرة، إذ يعود بالحكاية إلى عصرها البعيد، زمن السلطان العثماني محمد الفاتح، الذي ينتخب مواطنا بسيطاً للقيام بمهمة الكشف عن أسطورة المخوزق.

يبرع أشرف في التمهيد لمهمة بطله، وبناء مدخل مشوق للنص، يستحضر الوصف المكاني ليمنح إشارات عن الزمن الذي تسكنه الأحداث، ويتكئ على مخزون سينمائي جليّ في رسم التفاصيل بدقة المطلّع، وجهد الباحث الذي عمل بعناية ودقة -فيما يبدو- لينجز مهمته السردية، يتحرك بسلاسة بين أجواء السلطنة العثمانية، وتفاصيل الحياة اليومية لشخصيات ذلك الزمن -ثمة إشارات لا أحداث، وملاحظات تشي ولا تفصح بما كان عليه ذلك الزمن- وينتقل لأجواء أوروبا العتيقة، التي تنضح بالرعب والموت، وتقبع في وطأة التوحش وخوف الأحداث الدامية التي تتكرر ولا يجد لها الناس جوابا، يطل الموت من تفاصيل العمل باعتباره لغزاً لا مأساة، أحجية لا يفكر الباقون على قيد الحياة في حلّها، بل تحاشيها والهرب منها، ويصطدم بطل الرواية “أورهان أفندي” بكل هذه التفاصيل، يجمع خيوط مهمته المجهولة، التي يقيّض لها الراوي غجريةً ذات تركيبة غريبة، تشبه الغجر في شكلها، وطباعها، وحكمتها ربما، وتتخلف -في نهاية الأحداث- عما يُعرف عن الغجر من تقديس الحرية والميل للتفرد، ترافق البطل لتعلّمه ما لا يعلم، وتكشف له ما غاب عنه، وتوغل في ترهيبه الذي يزيده إصراراً على الاقتراب من جواب السؤال الذي جاء للإجابة عليه، قبل أن يتبدل إيقاع الأحداث وينقلب بتحوّل شخصيتين هامشيتين إلى أبطال ذوي سلطة وحضور يشغل مساحة هامة من العمل، رغم أن الراوي بدا وفياً للقصة الأصلية، وحرص على رعاية الأحداث الرئيسة كما حملها التاريخ، وترك لنفسه التفاصيل، والعالم الموازي لها، يكتب فيها ما شاء من خيالاته، ويبتكر شخوصه، وحكاياته الخاصة.

كان من المفاجئ -وسط دموية الموت والوصف المقزز لآثاره، وكتلة الرعب التي تحدق بالقارئ- أن ينسلّ الشعر مرافقاً لأسطورة “ابن الشيطان” ، ويمنح اللغة عاملاً جديداً للجذب، وتنقية الروح مما يعلق بها من شوائب الرعب، وعَته السفاح الذي لا نعرف متى يطلّ بهدية الموت، ومتى يخلق منعطفاً جديداً للحدث.

كان إيقاع الرواية ثابتا نسبياً قبل أن تتسارع في الفصول الأخيرة، وكأن الراوي صار يلاحق الأحداث، ويحاول توجيهها -ربما- دون أن يدري إلى أين تماما ستنتهي، وما الذي سيفعله أبطاله، ليقرر أن يقدم نهاية بجواب مفتوح على العديد من الاحتمالات، ويشرع الباب باتجاه الخيال، للبحث عن جواب مُرضٍ لمصير أبطاله، وعن صحة القصة الحقيقية من عدمها، وعن القيمة التي نحصدها من العودة للتاريخ، وقراءته بعين أخرى، غير تلك التي اعتدنا النظر إليه من خلالها.

صحيفة الحياة | الخميس ١٧ يناير ٢٠١٣

(Visited 193 times, 1 visits today)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *