”..ولوهلةٍ فكّرت كم هو مريع، كم هو مريع، كم هو مريع أنه على المرء أن يوجد” .. عزيز محمد
سأقول إنني قررت قراءة الرواية مدفوعاً بسببين، ثانيهما قبل الأول: وصولها إلى القائمة القصيرة في جائزة البوكر، وهذا سبب لم يدفعني مسبقاً لقراءة أي عمل، أما السبب الأول والأهم فهو الزخم الكبير الذي يرافق الرواية، والآراء المفرطة في إيجابيتها، بما يجعل سؤال: لماذا؟ يلحّ كثيراً، ويقودني إلى القراءة.. ثمة عوامل عدة منحت الرواية هذه الفرصة من الانتشار، كلها لا تبخس العمل جودته، لكنها تسهم في نشره بشكل متصاعد، مصحوبة بالضوء الذي تسلطه القائمة القصيرة على ضيوف 2018.
- لنبدأ من الناشر، دار التنوير – بيروت، وناشرها المثقف الأستاذ حسن ياغي، والمعروف بصرامته في اختيار النصوص التي ينشرها عبر مشروعه، إلى جانب عدم استجابته لضغوط السوق وطباعة أعمال خاوية، مهما كانت المغريات والوساطات التي تتدخل لتطلب منه ذلك.. من هنا تبدأ أولى علامات الإعجاب بـ ”الحالة الحرجة للمدعو ك“، حتى قبل قراءتها، ثقةً في خيارات الناشر وعينه الأدبية الفاحصة، وهو بحدّ ذاته سبب كاف لدى البعض للإقدام على قراءة أي عمل ينشره، لكن الأمر لم يتوقف هنا، إذ إضافةً إلى تبنّي عمل أول لكاتب غير معروف وطباعته، فإن ياغي قرر الدفع بأوراقه وترشيحه لجائزة البوكر، والتي شهدت بدورها ارتفاع معايير الأعمال الفائزة في السنوات الأخيرة، ما يعني إدراك الناشر لمحدودية فرص الفوز، ويؤكد، بالتالي، رهانه الأساس بتقديم عملٍ أول إلى الجائزة.
- كاتبُ العمل سعودي، ولطالما عانى الكتّاب السعوديّون بصفة خاصة (والخليجيون عموماً) من النظرة السلبية التقليدية لصراعٍ عتيق اجترحه مثقفون أدعياء احتكروا مفاهيم الإبداع، وظلوا على مدار أربعين سنة يروجون لكذبة أن الخليج لا ينجب مبدعين.. والآن، وبعد تلك العقود، وتبدّل الأحوال بعلوّ رُمح النص القادم من الخليج، وإثبات حضوره ميدانياً بأعمال جادة (أردتُ أن أقول صادمة، لكنّ هذا سيبدو استجابة للصورة النمطية التي رسمها مثقفو ”المراكز“ تجاهنا، نحن القادمون من ”الأطراف“)، أقول، بعد كل هذا، لا يزال النص السعودي متهماً بألف تهمة ليس هذا موضع حصرها ولا تفنيدها، ولكن ذات النظرة النمطية تُؤتي أُكُلَها على نحو مضاد، وتدعم ترويج المنتَج الأدبي السعودي، فيأخذ صدى يستحقه غالباً، بعيداً عن التابوهات التي انتهت موضتها رغم أنها شكّلت في وقتٍ ما مدخلاً جيداً لولوج المشهد العربي.
هل كان عليّ أن أورد هذه النقطة؟ ألم يكن ممكناً الاكتفاء بغيرها، بعيداً عن مشاكل الجغرافيا والتاريخ القريب المحتقن باستمرار؟ نعم: لأن صراع المركز والأطراف لا يزال حياً لكنه يعمل بنعومة ثعبان.. ولا: لأن في المشهد الأدبي الخليجي ما يكفي ليُخرس هذه الأصوات الرديئة وَ يردّها إلى حيث جاءت. - الرواية عملٌ أول، والأعمال الأولى أيضاً تثير علامات استفهام وتعجب كثيرة، ستجد من يحدثك عن غياب النضج السردي، وضعف التجربة الشخصية، والكثير من الترهات التي لا يمكن للعمل الإبداعي أن يحتكم إليها، خصوصاً أن المعايير السابقة مجردُ ابتكارات أكاديمية لاحقة ودخيلة على الإبداع، ليس من شأن أحد الحكم بشكل قاطع على جودة العمل لأن هذا العنصر لم يتوفر، أو أن تلك التقنية كانت ضرورية لدعم النص.. لذلك، فإن العمل الأول ينال على نطاق واسع نصيبَه من التشريح الجماهيري والنقدي وحتى غير المتخصص، إسقاط الرواية على شخص الكاتب هي العريضة الأولى الجاهزة بالتهمة: سيرةٌ ذاتية، وكأنها تهمة حقيقية فعلا، لا محض هراء لا أساس له، إلى جانب تهمة التأثر بكتّاب آخرين، وكأن أحداً بالفعل يستطيع أن يكتب عملاً خالصاً لا أثر لكاتب آخر فيه، بالطبع (وهذه كذبة شائعة) يحتاج الكاتب خمسين عاماً لكي يقال عن عمله إنه أصيل ومُبتَكر، وهي تهمة لم ينجُ منها عزيز محمد، لم أقرأ تعليقاً واحداً على العمل من دون إشارة إلى كافكويّته، وهي إن حَمَلَت شكل إطراء في بعض المواضع، إلا أنها حملت إشارة مبطنة في مواضع أخرى إلى غياب الأصالة.
قرر الناشر الدفع بأوراقه وترشيحه لجائزة البوكر، رغم معرفته بمحدودية فرص الفوز، ليؤكد، بالتالي، رهانه الأساس بتقديم عملٍ أول إلى الجائزة.
سأكتفي بهذه الأسباب التي شكّلت أرضية خصبة للتعريف بالعمل بشكل استثنائي، ليأتي إعلان القائمة القصيرة ويتوّج هذه الدوافع نحو قراءة العمل.
هل سبق وأن شاهدتَ عملاً شديد الإتقان؟ لا تكاد تلمس فيه موضع خلل؟ هل تستطيع تذكر عمل روائي احتفظت به ذاكرتُك بسبب اكتماله الغريب؟ هذا النص سيُضاف إلى قائمتك إن كانت لديك واحدة، وسيصعب عليك عزيزي القارئ استحضار سقطةٍ شاردة.
تتبّع الروايةُ يوميات مريض مصاب بسرطان الدم، وهي فكرة كفيلة ببعث الألم، فكيف إذا كان الكاتبُ متقِناً للانغماس في الحالة حدّ إقناع القارئ باستحالة ألا يكون الكاتب مريضاً، فيشعر بوخز إبرة الخزعة أسفل ظهره، ويبحث عن كوب ماء إذا استرسل الراوي في توصيف جفاف حلقه الذي تسبب به العلاج الكيماوي.. يُظهر العمل جُهداً كبيراً في البحث والتقصّي والتزود بالمعرفة الضرورية لـ ”صناعة“ هذا العمل، -سآتي لاحقاً على سبب استخدام مفردة صناعة- والركض كثيراً في حقل المعلومات المساندة للنص، ذلك أن الحكاية وحدها ليست كافية لملء العمل درامياً، هل ذكرنا أن بطل العمل بلا اسم؟ وأن كل الشخوص بلا أسماء؟ هم كذلك، سنلاحظ أيضاً غياب الزمان والمكان، هذا عمل صالحٌ ليُروى في أي بقعة من العالم، نحن أمام منطقة شرقية وعاصمة، وهذا ما يوجد بالضرورة في كل بلاد الأرض، إضافة إلى زمن مفتوح، نستطيع التنبؤ بحداثته عبر التوصيف العلاجي لحالة مريض السرطان، واستعانته ببعض الأجهزة التقنية في مواجهة الوقت الطويل الذي يُفسحه له المرض، ما خلا ذلك، فإننا لا نجد أي دالة مكانية أو زمانية داخل النص، وهذا لم يكن مؤثراً على أية حال.
تفاصيل وافية، عين سينمائية لاقطة، وإن كانت أحادية الزاوية، إلا أنها زاوية جيدة أغلب الوقت، سأجرؤ على القول إن بعض التفاصيل (طفيفةٌ ولا مبالغة فيها) لم تُضف شيئاً إلى الأحداث، خصوصاً في حوارات المريض الذاتية، كان يمكن استئصال بعضها من دون أن تمس بجوهر السرد، السردِ ذي النَفَس الطويل الذي يُنبئ بقدرة على الإمساك بخيوط الحكاية.
وثمة نَفَس ساخرٌ وجميل، حد الإضحاك، يندر أن أضحك عندما أقرأ، هذه خاصية أذكر (يا للغرابة!) أنّ نجيب محفوظ وحده استأثر بها في قراءاتي المبكّرة، كونديرا لديه بعض هذا الحس الساخر، لكنه ليس بقدرة محفوظ، خصوصاً في القصص القصيرة، عزيز محمد يمتلك هذه المقدرة، وهي نادرة بين الروائيين عموماً، وبشكل أكثر تحديداً لدى الروائيين الشباب، وهذا خبر جيد، أن هناك من سيدفعنا للضحك أثناء قراءته.
لماذا إذاً لا يجب لهذا النص أن يفوز بالبوكر، رغم أنه مُتقَن، ومتماسك، ومختلف؟ الحقيقة أن أكثر الحالات حرجاً – وأرجو ألّا يحدث هذا – ستكون لحظة إعلان فوز رواية ”الحالة الحرجة للمدعو ك“ بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر).. ربما ستكون نهايةً سيئة لكاتب جيد، تشبه أنه يحدّق إلى جهة ما بينما تصدمه سيارة من الجهة الأخرى وتنهي حياته، كما ورد هذا المعنى في الرواية، هذه نبوءة مرعبة آمل أنّ خيالي وحده تأثر بها، فلا يريد أحدٌ أن يُحاكم كاتبٌ جيدٌ لبقية حياته عطفاً على إصداره الأول، الفائز بالبوكر.. لقد استخدمتُ مفردة صناعة لأدلّل على مدى دراية الكاتب بما كان يتوجب عليه فعله لرواية مميزة تترك أثراً، تشي من جهة بقدرة كاتبها على الانضباط والالتزام بالعمل على النص (وهذه مسألة يكشفها التحكّم بإيقاع السرد)، ومن الجهة المقابلة تكشف عن قدرة كاتب واعد، ممتلئ بأدواته، خصوصاً وأنه لا يزال في مرحلة قابلة للتطور وخوض المزيد من التجريب والتجارب في الكتابة.. لهذا فقط، آمل ألا تكون الرواية هي الفائزة بالبوكر لهذا العام، ويكفيها أنها قدّمت لنا كاتبها بالشكل الذي يستحقُه هو، ويستحقه جهده.
لماذا لا تاخذ روايتك (الجنسيه)
جائزة البوكر
ربما في دورة لاحقة 🙂
الكاتب بذئ في كلامه وسط أصدقاءه ويتباهى بقلة أدبه حتى على الملأ، السبب هو الغرور الكبير المصاحب عادة لأي نجاح مفاجئ لشاب في مقتبل العمر. قد تخدعك الرواية بنضجها ولكنها كتبت على يد شخص مهزوز من الداخل
في النهاية، فإن شخص الكاتب لن يعنيني كثيراً أمام المنتَج، أياً كان، فما بينه وبيني هو ما أقرؤه فقط
احسنت